ريغة: عاصمة المغرب القديم

ريغة: عاصمة المغرب القديم

ما تزال الحفريات مستمرة في ريغة قصد الإحاطة بالتنظيم المجالي لهذا الموقع خلال مراحل الاستقرار الثلاث الكبيرة، التي تنقسم بين المورية والرومانية والإسلامية، لكن عددا من الباحثين خلصوا إلى توطين عاصمة المملكة الموريطانية في ريغة أو جيلدا، كما يسميها البعض.
يعتبر سهل الغرب أخفض الوحدات المكونة لحوض سبو، حيث توافق حدوده المستوى الارتفاعي 50 مترا الذي يحيط بالسهل الغريني ذي الفيض الموسمي، والمنحصر بين مجموعتين بنيويتين كبيرتين: الهضبة (المعمورة) جنوبا والريف شمالا. فهو من بين أخصب السهول المغربية، مما جعله يعرف استقرار بشريا منذ عصور ضاربة في القدم، وذلك على الرغم من المعوقات الطبيعية التي كان يعرفها، والمتمثلة في الفيضانات الموسمية التي تجعل من السهل عبارة عن مرجات. ومع ذلك، فإنها لم تمنع الإنسان من التعامل معها وتكييفها لصالحه.
يدخل وجود عدد من المدن، خلال الفترة الرومانية كريغة وبناصا وتموسيدة، وسط هذا السهل، ضمن استراتيجية عسكرية واقتصادية. فإقامة هذه المدن داخل منطقة سهلية خصبة مرتبطة بتوفير مجال لاستقبال وتوطين عدد من الجنود الرومان المتقاعدين خاصة بعد انتهاء الحروب الأهلية، بحيث أصبح هؤلاء يشكلون فائضا بشريا حاولت روما أن تجد حلا له من خلال توطينهم في عدد منها. من المدن الثلاث السابقة سيتم التركيز على إحداها، وهي مدينة ريغة التي عرفت خلال السنوات الأخيرة حفريات جديدة ألقت مزيدا من الضوء على الدور الذي كان لهذه المدينة من بين مدن المغرب القديم.
عاصمة‭ ‬قبل‭ ‬الرومان
تقع ريغة وسط سهل الغرب، على بعد ثمانية كيلومترات شمال غرب مدينة سيدي سليمان، في إحدى منعطفات وادي بهت، على الضفة اليمنى لهذا الوادي، وهي عبارة عن ربوة تحتوي على بقايا يحيط بها منعطف الوادي من الشمال والغرب والجنوب.  اكتشف الموقع منذ سنة 1919، وصنف مؤخرا ضمن لائحة التراث الثقافي المغربي، ويشغل مجالا يمتد على حوالي اثنى عشر هكتارا. لا يُعْرَف أي شيء عن أصل اسم المدينة، ربما هي مشتقة من اسم أمازيغي، إذ يمكن مطابقتها مع التسمية الواردة عند البكري والمتعلقة بموقع أغيغى، حين قال «مدينة أغيغى ومعنى أغيغى حجارة يابسة لأنها مبنية بالحجر بغير طين».
يمكن لهذا المكان أن يطابق مدينة جيلدا الواردة في المصادر والأبحاث الأثرية. فقد وردت المدينة بهذا الاسم في العديد من المصادر القديمة، إذ أشار ألكسندر بوليستور إلى أن «جيلدا هي مدينة ليبية، اسم شعبها جيلديت»، فيما أكد بومبنيوس ميلا على أنها توجد داخل الأراضي، فهي وسط منطقة خصبة. ومن جهة أخرى، وردت ريغة باسم سيلدا Silda عند الجغرافي بطليموس الذي وطنها بين إحداثيات 7°50› و33° 40›. ووضعت في الدليل الأنطونيني بين مركزي أكواداسيكيAquadacicae وفوبيسكياناVopisciana  كما ورد اسم المدينة على آجر تحت عبارة لاتينية «فاكتا جيلداي» (facta gildae)، أي صنع في جيلدا. اكتشفت هذه القطعة في ضيعة بريو على الضفة اليمنى لوادي بهت، جنوب غرب مدينة سيدي سليمان، والتي تعرف حاليا بمجال بهت (Domaine Beht)  كما يمكن الإشارة، كذلك، إلى العثور على قطعة آجر أخرى، عليها نفس العبارة في دار بلعامري غير بعيدة عن المكان السابق. وفي هذا الإطار لابد من التذكير بأن ريغة هي أقدم تاريخيا من ضيعة بريو.
بالنسبة لإشارات الأوربيين، فقد وردت مدينة ريغة في عدة نقط. فقد طابقها شارل تيسو مع موقع الحاليين، وجعلها هنري دولامارتنيير على مجال آيت جيلدا أو بني مسجيلدة. نفس الإشارة التي وردت عند شارل تيسو، الذي ذكر قبيلة مسجيلدة شمال شرق النقطة التي يضع فيها جيلدا. إضافة إلى الباحث ج. بوب الذي اقترح البحث عنها بين الخنيشات وسيدي سليمان.  كما قدم شارل تيسو افتراضا مفاده أن سيلدا Silda الواردة عند بطليموس تطابق جيلدا الواردة عند بومبونيوس ميلا والدليل الأنطونيني. إن اسم جيلدا يمكن مقاربته من لفظة أكليد التي تعني زعيم قبيلة أو أمير. في هذا الإطار يمكن أن ندرج ما انتهى إليه الباحث ج.دوزانج J. Desanges الذي اقترح إمكانية البحث عن عاصمة الملك الموري بوكوس داخل الأراضي. نفس الفرضية تقدم بها الباحث المغربي محمد مجدوب الذي افترض إمكانية مطابقة جيلدا لعاصمة المملكة الموريطانية. وفي محاولة تأكيد ذلك، قدم فريق البحث المغربي الفرنسي التي يشتغل حاليا حول الموقع إشارة وجود قبر أميري، وقع تدميره سنة 1939، يبعد بحوالي ثلاثة كيلومترات عن موقع ريغة، والمؤرخ من خلال اللقى التي تعود إلى القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد. وهو ما دفع بعدد من الباحثين إلى توطين عاصمة المملكة الموريطانية في جيلدا.
تاريخ‭ ‬المدينة
تأتي أهمية الموقع من بين مواقع سهل الغرب كبناصا وتموسيدة في كونه يختزل تاريخا للاستقرار، يمتد من الفترة الموريطانية السابقة عن وصول الرومان إلى الفترة الإسلامية الوسيطية. وبهذا، فإن البحث عن الحاضرة الموريطانية والرومانية جيلدا يجب أن يكون في ما عرف بالجزء الجنوبي للمغرب الروماني، وخاصة في سهل الغرب وعلى طول وادي بهت. قدمت عدة إشارات عن هذا الموقع في الأعمال، التي همت مدن ومراكز المغرب القديم، والتي أنجزت من طرف عدد من علماء الآثار، مثل لويس شاتلان وموريس أوزينا وأرموند لوكي ور.توفنو  بينما كشف القائد هالبواش سنة 1919 عن آثار الموقع وشملته الحفريات سنة 1920 تحت إشراف لويس شاتلان. ولم تنشر نتائج الاستبارات الأولى إلا في مجلات محدودة. واعتبر شاتلان أن مركز ريغة لا يمكن أن يكون إلا مركزا عسكريا، وذلك بالنظر إلى مساحته الصغيرة. من جانب آخر، أنجز موريس أوزينا سنة 1955 استبارا بطول خمسة عشر متر وعرض ثمانية أمتار وذلك لتحديد الاستقرار الروماني، وفي نفس الوقت تحديد آثار الفترة الموريطانية في هذا الموقع. وساعدت نتائج هذه الحفريات على تقديم تاريخ للاستقرار يمتد بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الثالث الميلادي.
وحظي الموقع، مؤخرا، باهتمامات بعثة مغربية فرنسية في إطار تحريات بعثة سبو وذلك خلال سنوات 1980-1990، وقد قدم ر. روبيفا. أحد أعضاء هذه البعثة فرضية مطابقة ريغا لجيلدا الواردة في المصادر. دافع هذا الباحث عن فرضية أن جيلدا هي ريغة، وأكد على أنه يجب البحث عن جيلدا في وادي بهت في نقطة قريبة من سيدي سليمان، ولا تسمح المعطيات المتوفرة بتوطينها في ضيعة بريو.  في المقابل، فإن موقع ريغة يمكن أن يطابق مدينة صغيرة. وتعزيزا لهذا الطرح، دعم ر. روبيفا رأيه بذكر جيلدا من طرف ألكسندر بوليستور، الذي قال «إن بناء ريغة يعود إلى قبل أواسط القرن الأول قبل الميلاد، وأنها هي الموقع الوحيد ضمن مواقع بهت التي توفر لحد الآن فخارا متقدما عن سنة 50 قبل الميلاد». وأرخت نتائج الاستبار الذي أنجزه أوزينا، أن ريغة تعود للقرن الثاني قبل الميلاد على الأقل.  إن من شأن العثور تحت هذه البنايات على قطع من الخزف الكمباني والمصبوغ وقطعة نقدية تعود لمسينيسا إضافة إلى آثار جدار من اللبن، تزكية فكرة الاستقرار الذي يعود إلى ما قبل الوجود الروماني في الموقع.
فقد أشار أرموند لوكي إلى حفريات أقيمت في مركز على منعطف وادي بهت، وإلى حوالي خمسة كيلومترات شمال غرب سيدي سليمان، مكنت من الوقوف على استراتيغرافية مماثلة لتلك التي خلصت إليها الاستبارات في بناصا. كما أن العثور على فخار مصبوغ، مثل الذي وجد في موقعي القواس وبناصا، يعتبر خير شاهد على أن الموقع يعود للفترة السابقة عن وصول الرومان، وهذا بالفعل ما أكدته الحفريات.
مراحل‭ ‬ريغة‭ ‬وبناياتها‭ ‬
تناولت س. جيرار دراسة استراتيغرافية الموقع، وحددت في أحد الاستبارات وجود أربعة مستويات، يؤرخ أقدمها بالقرن الثاني قبل الميلاد، ويعود المستوى الذي يليه إلى القرن الأول قبل الميلاد، اعتمادا على لقى الخزف المصبوغ والكمباني، في حين يعود باقي المستويين إلى الفترة الرومانية. عرف الموقع في السنوات الأخيرة حفريات بعثة مغربية فرنسية، بدأت عملها منذ سنة 2004. من النتائج التي انتهت إليها التمييز بين أربع مراحل أساسية في الاستقرار في الموقع، الأول تعود إلى المرحلة الموريطانية، فقد كشفت نتائج الاستبار الذي أنجز في الموقع عن بنيات من اللبن ولقى متنوعة من فخار وأمفورات وقطع نقدية في مستويات تعود للقرن الخامس قبل الميلاد.
وتعود المرحلة الثانية إلى الفترة الممتدة بين القرن الرابع والقرن الأول قبل الميلاد. بينما تمتد المرحلة الرومانية من القرن الأول للميلاد إلى القرن الثالث للميلاد، ثم أخيرا المرحلة الإسلامية والتي تبدأ من القرن التاسع وتنتهي في القرن الرابع عشر. تتمثل الآثار التي تم الكشف عنها في ريغة، خلال الحفريات الأولى التي عرفها الموقع، في بقايا سور من رضم (حجارة بيضاء)، وباب تظهر من آثاره بعض الكتل، إضافة إلى بناية يصعب تحديد وظيفتها، فضلا عن حمامات احتوت بعض غرفها على لوحة فسيفسائسية. وفي الجهة الجنوبية الشرقية، بناية من عدة غرف تنفتح على باحة. وبهذا يمكن الحديث من خلال هذه الآثار عن منطقتين سكنيتين بالإضافة إلى حمامات. بالنسبة للأخيرة، فهي حمامات خصوصية، تتكون من مسبح مربع وقاعة تحتوي على لوحة فسيفسائية، احتوت كذلك على قاعة ومسبح آخر وأفران أرضية. يتميز التنظيم الداخلي لهذه الحمامات بنظام خطي (Lineaire)، كما أن السير داخلها هو تراجعي كما هو سائد في كل حمامات موريطانية الطنجية، حيث توجد قاعة باردة وقاعة دافئة وقاعة ساخنة، ثم العودة عبر مسلك تراجعي. إضافة إلى هذه الحمامات، مكنت الحفريات من الكشف عن عدد من الغرف تخترق إحداها قناة. وخلال مرحلة جفاف الوادي تم الكشف، في الجهة الجنوبية الشرقية للموقع، عن مكونات معاصر زيتون و مخبزات، وذلك من خلال مواد أثرية مرتبطة بهذه المرافق الاقتصادية، هي عبارة عن (ثقالات مقنطرة Contrepoids parallélépipédiques، وحوض عصر، وأرحية من البازالت، ومعجن من الكلس).  من جانب آخر، أشارت الباحثة س.جيرار إلى وجود معسكر يعود للفترة الرومانية في المدينة، إلا أن التحريات الجارية لم تؤكد هذه الفرضية.  بالنسبة للمرحلة الإسلامية، عرفت المدينة إعادة استغلال البنايات التي تعود للفترة الرومانية من طرف ساكنة الموقع. لم يتم وضع تصميم لهذه الآثار الأولى التي كشفت عنها الحفريات، وهو ما قامت به البعثة المغربية الفرنسية حيث أنجزت تحريات جيوفيزيائية في مناطق لم تشملها الحفريات السابقة إضافة إلى استبار.  وقد مكنت هذه الآثار واللقى، التي كشفت عنها الحفريات في كل جهات الموقع، من الوصول إلى استنتاج يفيد أن الموقع كان يعرف استقرارا خلال الفترة الإسلامية.
مازالت الحفريات مستمرة في الموقع، وذلك بغية الإحاطة بالتنظيم المجالي لهذا التجمع خلال مراحل الاستقرار الثلاث الكبيرة: مورية ورومانية وإسلامية. والتي لا تغيب أي منها عن الإشكالية التي طرحها علماء الآثار، وذلك في أفق التعرف على تاريخ هذه الجهة من سهل الغرب والمرتبطة بتاريخ المغرب.

Comments

Popular posts from this blog

مدينة بناصا ذاكرة سهل الغرب

ريغـــــــة

المعمورة : مدينة لم تعمر طويلا